بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام ومسائل في قصر الصلاة في السفر
تعريف قصر الصلاة:
هو الاقتصار على ركعتين من الصلاة الرباعية حال السفر.
فضل القصر في السفر:
عن يعلي بن أمية قال: قلت لعمر ? قوله تعالى: ?فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا? [النساء: 101] وقد أمن الناس.
قال: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ? فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» [رواه مسلم].
وعن عمر ? مرفوعًا: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»( ).
فالسنة قصر الصلاة في السفر؛ لأنه أفضل من الإتمام عند جمهور العلماء، ولأن
قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين مشروع بالكتاب والسنة، وجائز بإجماع أهل
العلم بل منهم من حكى الوجوب لمداومته ? على القصر في سفره ولمداومة خلفائه
من بعده عليه.
أما ما يروى عنه ? أنه صلى في السفر أربعًا في حياته فهو حديث باطل عند أئمة الحديث.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعًا، بل وكذلك أصحابه معه»( ).
وقال الإمام مالك رحمه الله: «القصر في السفر للرجال والنساء سنة».
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «لا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة».
وقال الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يصلي في السفر أربعًا: «ما يعجبني، السنة ركعتان»( ).
مسافة القصر:
يرى كثير من الفقهاء أن مقدار المسافة التي يصح للمسافر الترخص فيها برخص
السفر كقصر الصلاة والفطر في رمضان وغيرهما من الرخص، هي أربعة بُرُدٍ، وهي
تساوي في حاضرنا ثلاثة وثمانين كيلو تقريبًا( ).
فمن قطع هذه المسافة شرع له الترخص سواء طال الزمن لقطعها أم قصر( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة رحمهما الله: إنَّ مسافة القصر لم
تأت في الشريعة محددة فكل من صحَّ أن يطلق عليه مسافر فإن له حق الترخص،
وقد صحَّح هذا القول شيخنا محمد بن عثيمين، وهو قول ابن القيم رحمه الله(
).
متى يبدأ المسافر بقصر الصلاة؟:
إذا فارق المسافر بيوت بلده وجعلها وراء ظهره جاز له القصر ولا يلزم أن
يتجاوز المسافر مزارع بلده إذ العبرة بالبيوت فقط، وهو قول الجمهور، وأصح
قولي العلماء.
فمن خرج من بلده قاصدًا المطار للسفر فإن له الترخص في رخص السفر منذ
مفارقة بلده بشرط تأكد حجزه، أما إن خرج للمطار للبحث عن مقعد فإنه لا
يترخص لعدم تأكد حجزه إذ لا يصح أن يطلق عليه مسافر.
وهذا الحكم باعتبار أن المطار خارج البلد كمطار الرياض والقصيم ونحوهما،
أما إن كان المطار داخل البلد فلا يجوز الترخص لقاصده حتى يفارقه بسفره.
فعن أنس ? قال: «صليت مع النبي ? الظهر بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين» [متفق عليه].
فانظر إلي ذي الحليفة في القديم كانت خارج المدينة، أما اليوم مع توسع
المدينة دخلت في نطاقها العمراني فعلى هذا من خرج من المدينة قاصدًا مكة
فلا يجوز له الترخص من قصر وغيره حتى يجاوز ذا الحليفة لأنها صارت من
المدينة ( ).
الصلاة التي لا يدخلها القصر:
اتفق الأئمة على أن صلاة الصبح وصلاة المغرب لا تقصران، بل حكى الزركشي
الإجماع على ذلك لعدم ورود الدليل على قصرهما، ولأن قصر الصبح يجحف بها،
وقصر المغرب يزيل وتْرِيتها حيث إن صلاة المغرب وتر النهار( ).
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب فرضت
ثلاثًا، وكان رسول الله ? إذا سافر صلى الصلاة الأولى، وإذا أقام زاد مع
كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح تطول فيها القراءة»( ).
مدة القصر:
تعددت الأقوال حول المدة التي يجوز للمسافر القصر فيها إذا أقام في بلد
الغربة وأصح تلك الأقوال أنه يقصر ما دام مسافرًا حتى يعود إلى بلده.
قال ابن القيم رحمه الله: «كان ? يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج
مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه ? أن أتمَّ الرباعية في
سفره البتة»( ).
فمن ذلك أنه ? أقام في مكة حين فتحها ثماني عشرة ليلة يقصر الصلاة، وأقام في تبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وغيرها من الأدلة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن أقمت في بلد خمسة أشهر فاقصر الصلاة».
وعن الحسن أن عبد الرحمن بن سمرة شتَّى بكابل شتوة أو شتوتين يصلي ركعتين. والآثار متعددة في هذه المسألة( ).
إذا اقتدى المسافر بالمقيم وجب الإتمام:
إذا ائتمَّ المسافر بإمام مقيم وجب عليه إتمام الصلاة اقتداء بالإمام لقوله ?: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه»( ).
ولقوله ?: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»( ).
وسواء أدرك مع الإمام جميع الصلاة أو أدرك ركعة فقط بل لو أدرك أقل من
الركعة وجب عليه الإتمام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل ما بال
المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعًا إذا ائتم بالمقيم؟ فقال: «تلك
السنة»( ).
وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأصحهما بل حكة البعض الإجماع ( ).
إذا صلى المسافر المغرب خلف من يتم صلاة العشاء أو العكس فما الحكم؟
القول الراجح: صحة الصلاة ولو اختلفت النية بين الإمام والمأموم، فعلى هذا
القول، إن صلى الإمام العشاء والمأموم المغرب وأدرك من صلاة العشاء الركعة
الثانية وما بعدها فلا إشكال لأنه سوف يسلم مع الإمام أما إن دخل مع الإمام
في الركعة الثالثة أتى بركعة بعدها، وإن دخل في الرابعة أتى بركعتين.
أما في حال إدراك المأموم لصلاة العشاء كاملة مع الإمام وقد نوى المغرب في
صلاته مع إمامه فإنه يلزمه إذا قام الإمام للركعة الرابعة أن يجلس ولا
يقوم، ثم يتشهد ويسلم وهو الأفضل، وله أن يجلس في تشهده وينتظر الإمام حتى
تتم الركعة الرابعة ثم يسلم معه.
لكن ينبغي للمأموم في حال انتظاره سلام الإمام أن يطيل التشهد ويدعو فيه
لئلا يبقى ساكتًا، لأن الصلاة عبادة لا يفتر فيها عن ذكر الله.
وكون الصفة الأولى أفضل لأنَّه إذا سلَّم قبل الإمام سوف يدرك ركعة من صلاة
العشاء مع الإمام فيحصل له أجر صلاة الجماعة في المغرب والعشاء.
أما إن نوى المسافر صلاة العشاء خلف من يصلي المغرب لزمه أن يتم صلاة
العشاء لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والإتمام فغلب جانب الإتمام بلا خلاف( ).
وقيل: يسلم من ركعتين فقط، قاله شيخنا محمد بن عثيمين وصحَّحه( ).
إذا أم المسافر مقيمين ومسافرين فما الحكم؟:
هذه المسألة تقع كثيرًا في مساجد الطرقات والمحطات وغيرها لكنَّها لا تخلو من حالين، إما أن يكون الإمام مقيمًا أو يكون مسافرًا.
فإذا اتضح أن الإمام مقيم وجب الإتمام معه، ما عدا صلاة المغرب خلف من يتم العشاء فقد سبق بيان صفتها.
وأما إن كان الإمام مسافرًا فإنه يقصر الصلاة هو والمسافرون فقط ويتم
المقيمون وجوبًا، غير أن الإمام في حالة القصر يسن أن يقول بعد سلامه من
الصلاة: «أتموا فإنا قوم سفر» كما هو ثابت عنه ?، ويتأكد هذا القول إذا خشي
الإمام أن يلتبس الأمر على المصلين( ).
وإن أخبر الإمام جماعة المصلين قبل أن يصلي فقال لهم: إنا مسافرون، فإذا سلمنا فأتموا صلاتكم كان حسنًا.
من ذكر صلاة حضر في السفر أو العكس فإنه يصليها كما وجبت:
إذا ذكر المسافر أنه لم يؤد صلاة الحضر، أو أنه قد صلاها على غير وجه مشروع
كصلاته لها بغير وضوء، فلو صلى الظهر في بلده ثم سافر وذكر أنه صلاها بغير
طهور، فإنه يصليها في سفره كما كانت أربعًا بإجماع أهل العلم لقوله ?: «من
نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» [رواه مسلم].
أما عكس المسألة وهي: أن يذكر المسافر صلاة سفر عندما يصل إلى بلده ،ويتبين
له أنه صلاها بغير وضوء فإنه يلزمه قضاؤها، لكن هل يصليها تامة أو مقصورة؟
الراجح: صلاتها ركعتين إذا كانت رباعية للحديث السابق وللقاعدة الفقهية:
«القضاء يحكي الأداء» أي: أنه يقضيها على صورتها حين وجوبها السابق ( ).
حكم قصر الصلاة لمريد النزهة والاحتطاب والصيد ونحوها:
لا يجوز قصر الصلاة لغير مريد السفر لقوله تعالى: ?وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ?
[النساء: 101]؛ ولأنه ? كان لا يقصر إلا إذا خرج وارتحل.
والحكمة من مشروعية القصر التخفيف على المسافر للمشقة اللاحقة فيه ومعونته
على ما هو بصدده، أما من كان في بلده فلا يجوز له القصر بأي حال.
ومن الغريب أن البعض يتبادر إلى ذهنه أن الجمع والقصر للصلاة متلازمان وهذا
مفهوم خاطئ؛ لأن الجمع يجوز حال الحضر وحال السفر بخلاف القصر فإنه لا يصح
إلا في السفر.
ومع هذا فإن المرء قد يخرج من بلده لغير السفر كالنزهة البرية والصيد والاحتطاب والاحتشاش وغيرها فهل له القصر والجمع؟
اختلف في ذلك أهل العلم فمنهم من منع القصر لهؤلاء لأنهم ليسوا مسافرين،
ومنهم من أجازه وهو الصحيح وهو قول جمهور العلماء لأن أدلة القصر مطلقة غير
مقيدة.
قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله: إذا كانت المسافة بين البلد وبين محل
النزهة ثلاثة فراسخ أي تسعة أميال، وصاروا يقيمون إقامة يحملون من أجلها
الزاد والمزاد كاليومين والثلاثة فهم مسافرون يترخصون برخص السفر لما روى
مسلم عن أنس بن مالك ? قال: «كان النبي ? إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو
ثلاثة فراسخ صلى ركعتين»، ولكن الأولى عدم الجمع إلا إذا دعت الحاجة إليه.
وفي الدرر السنية (4/423): «الحشّاش ( ) والحطاب ونحوهما لهما القصر إلا
على قول من قال بتحديد المسافة ونية بلوغها وقد عرفت ما فيه، وأن الحجة مع
من خالفه، وهذا الذي يظهر لي».
مسائل:
المسألة الأولى: إذا اقترب المسافر من بلد إقامته راجعًا إليها جاز له
القصر ما لم يدخل بلده؛ لأنه ما زال مسافرًا لقول أنس ?: «خرجنا مع رسول
الله ? من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى
المدينة»( ).
وعن علي بن ربيعة قال: «خرجنا مع علي ? فقصرنا ونحن نرى البيوت ثم رجعنا
فقصرنا ونحن نرى البيوت فقلنا له، فقال علي: نقصر حتى ندخلها»( ).
المسألة الثانية: إذا رجع المسافر من السفر ودخل عليه الوقت وهو في السفر
ثم وصل بلده قبل خروج وقتها ،فإنه يصلي الرباعية أربعًا ولا يقصرها لانقطاع
سفره بعد دخوله بلده.
المسألة الثالثة: إذا علم المسافر أنه يقدم بلده قبل دخول وقت الصلاة
الثانية، فجمع بين الصلاتين صحَّتْ صلاته، لأن ذمته برئت بذلك ولأنه ما زال
مسافرًا وقيل: الأفضل عدم الجمع.
المسألة الرابعة: المسافر تلزمه الجماعة كالمقيم لكن إن وجد
جماعة يصلون قصرًا صلى معهم لأنه بهذا يجمع بين السنة في حقه وهو القصر
وبين الصلاة جماعة، أما إن لم يجد مسافرين يصلون قصرًا صلى مع المقيمين
ولزمه الإتمام ( ).
وعن شيخنا ابن باز رحمه الله: إذا كان المسافرون جماعة جاز لهم القصر
والجمع داخل البلد ولكن ترك الجمع أفضل؛ لأنهم مقيمون ولعدم الحاجة إليه،
أما من كان وحده فإن عليه الصلاة مع جماعة المسلمين ويتمها معهم من غير جمع
لعموم الأدلة، وهو قول شيخنا ابن عثيمين رحمه الله ( ).
هذا ما تيسر جمعه وبيانه من أحكام القصر؛ لتبصير أهل الحق وطالبي الحقيقة،
فالله أسأل أن يجعله عملاً مقبولاً، وأن ينفعنا بما نقوله إنه أهل الفضل
والإنعام، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحكام ومسائل في قصر الصلاة في السفر
تعريف قصر الصلاة:
هو الاقتصار على ركعتين من الصلاة الرباعية حال السفر.
فضل القصر في السفر:
عن يعلي بن أمية قال: قلت لعمر ? قوله تعالى: ?فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا? [النساء: 101] وقد أمن الناس.
قال: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ? فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» [رواه مسلم].
وعن عمر ? مرفوعًا: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»( ).
فالسنة قصر الصلاة في السفر؛ لأنه أفضل من الإتمام عند جمهور العلماء، ولأن
قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين مشروع بالكتاب والسنة، وجائز بإجماع أهل
العلم بل منهم من حكى الوجوب لمداومته ? على القصر في سفره ولمداومة خلفائه
من بعده عليه.
أما ما يروى عنه ? أنه صلى في السفر أربعًا في حياته فهو حديث باطل عند أئمة الحديث.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعًا، بل وكذلك أصحابه معه»( ).
وقال الإمام مالك رحمه الله: «القصر في السفر للرجال والنساء سنة».
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «لا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة».
وقال الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يصلي في السفر أربعًا: «ما يعجبني، السنة ركعتان»( ).
مسافة القصر:
يرى كثير من الفقهاء أن مقدار المسافة التي يصح للمسافر الترخص فيها برخص
السفر كقصر الصلاة والفطر في رمضان وغيرهما من الرخص، هي أربعة بُرُدٍ، وهي
تساوي في حاضرنا ثلاثة وثمانين كيلو تقريبًا( ).
فمن قطع هذه المسافة شرع له الترخص سواء طال الزمن لقطعها أم قصر( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة رحمهما الله: إنَّ مسافة القصر لم
تأت في الشريعة محددة فكل من صحَّ أن يطلق عليه مسافر فإن له حق الترخص،
وقد صحَّح هذا القول شيخنا محمد بن عثيمين، وهو قول ابن القيم رحمه الله(
).
متى يبدأ المسافر بقصر الصلاة؟:
إذا فارق المسافر بيوت بلده وجعلها وراء ظهره جاز له القصر ولا يلزم أن
يتجاوز المسافر مزارع بلده إذ العبرة بالبيوت فقط، وهو قول الجمهور، وأصح
قولي العلماء.
فمن خرج من بلده قاصدًا المطار للسفر فإن له الترخص في رخص السفر منذ
مفارقة بلده بشرط تأكد حجزه، أما إن خرج للمطار للبحث عن مقعد فإنه لا
يترخص لعدم تأكد حجزه إذ لا يصح أن يطلق عليه مسافر.
وهذا الحكم باعتبار أن المطار خارج البلد كمطار الرياض والقصيم ونحوهما،
أما إن كان المطار داخل البلد فلا يجوز الترخص لقاصده حتى يفارقه بسفره.
فعن أنس ? قال: «صليت مع النبي ? الظهر بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين» [متفق عليه].
فانظر إلي ذي الحليفة في القديم كانت خارج المدينة، أما اليوم مع توسع
المدينة دخلت في نطاقها العمراني فعلى هذا من خرج من المدينة قاصدًا مكة
فلا يجوز له الترخص من قصر وغيره حتى يجاوز ذا الحليفة لأنها صارت من
المدينة ( ).
الصلاة التي لا يدخلها القصر:
اتفق الأئمة على أن صلاة الصبح وصلاة المغرب لا تقصران، بل حكى الزركشي
الإجماع على ذلك لعدم ورود الدليل على قصرهما، ولأن قصر الصبح يجحف بها،
وقصر المغرب يزيل وتْرِيتها حيث إن صلاة المغرب وتر النهار( ).
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب فرضت
ثلاثًا، وكان رسول الله ? إذا سافر صلى الصلاة الأولى، وإذا أقام زاد مع
كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح تطول فيها القراءة»( ).
مدة القصر:
تعددت الأقوال حول المدة التي يجوز للمسافر القصر فيها إذا أقام في بلد
الغربة وأصح تلك الأقوال أنه يقصر ما دام مسافرًا حتى يعود إلى بلده.
قال ابن القيم رحمه الله: «كان ? يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج
مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه ? أن أتمَّ الرباعية في
سفره البتة»( ).
فمن ذلك أنه ? أقام في مكة حين فتحها ثماني عشرة ليلة يقصر الصلاة، وأقام في تبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وغيرها من الأدلة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن أقمت في بلد خمسة أشهر فاقصر الصلاة».
وعن الحسن أن عبد الرحمن بن سمرة شتَّى بكابل شتوة أو شتوتين يصلي ركعتين. والآثار متعددة في هذه المسألة( ).
إذا اقتدى المسافر بالمقيم وجب الإتمام:
إذا ائتمَّ المسافر بإمام مقيم وجب عليه إتمام الصلاة اقتداء بالإمام لقوله ?: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه»( ).
ولقوله ?: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»( ).
وسواء أدرك مع الإمام جميع الصلاة أو أدرك ركعة فقط بل لو أدرك أقل من
الركعة وجب عليه الإتمام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل ما بال
المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعًا إذا ائتم بالمقيم؟ فقال: «تلك
السنة»( ).
وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأصحهما بل حكة البعض الإجماع ( ).
إذا صلى المسافر المغرب خلف من يتم صلاة العشاء أو العكس فما الحكم؟
القول الراجح: صحة الصلاة ولو اختلفت النية بين الإمام والمأموم، فعلى هذا
القول، إن صلى الإمام العشاء والمأموم المغرب وأدرك من صلاة العشاء الركعة
الثانية وما بعدها فلا إشكال لأنه سوف يسلم مع الإمام أما إن دخل مع الإمام
في الركعة الثالثة أتى بركعة بعدها، وإن دخل في الرابعة أتى بركعتين.
أما في حال إدراك المأموم لصلاة العشاء كاملة مع الإمام وقد نوى المغرب في
صلاته مع إمامه فإنه يلزمه إذا قام الإمام للركعة الرابعة أن يجلس ولا
يقوم، ثم يتشهد ويسلم وهو الأفضل، وله أن يجلس في تشهده وينتظر الإمام حتى
تتم الركعة الرابعة ثم يسلم معه.
لكن ينبغي للمأموم في حال انتظاره سلام الإمام أن يطيل التشهد ويدعو فيه
لئلا يبقى ساكتًا، لأن الصلاة عبادة لا يفتر فيها عن ذكر الله.
وكون الصفة الأولى أفضل لأنَّه إذا سلَّم قبل الإمام سوف يدرك ركعة من صلاة
العشاء مع الإمام فيحصل له أجر صلاة الجماعة في المغرب والعشاء.
أما إن نوى المسافر صلاة العشاء خلف من يصلي المغرب لزمه أن يتم صلاة
العشاء لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والإتمام فغلب جانب الإتمام بلا خلاف( ).
وقيل: يسلم من ركعتين فقط، قاله شيخنا محمد بن عثيمين وصحَّحه( ).
إذا أم المسافر مقيمين ومسافرين فما الحكم؟:
هذه المسألة تقع كثيرًا في مساجد الطرقات والمحطات وغيرها لكنَّها لا تخلو من حالين، إما أن يكون الإمام مقيمًا أو يكون مسافرًا.
فإذا اتضح أن الإمام مقيم وجب الإتمام معه، ما عدا صلاة المغرب خلف من يتم العشاء فقد سبق بيان صفتها.
وأما إن كان الإمام مسافرًا فإنه يقصر الصلاة هو والمسافرون فقط ويتم
المقيمون وجوبًا، غير أن الإمام في حالة القصر يسن أن يقول بعد سلامه من
الصلاة: «أتموا فإنا قوم سفر» كما هو ثابت عنه ?، ويتأكد هذا القول إذا خشي
الإمام أن يلتبس الأمر على المصلين( ).
وإن أخبر الإمام جماعة المصلين قبل أن يصلي فقال لهم: إنا مسافرون، فإذا سلمنا فأتموا صلاتكم كان حسنًا.
من ذكر صلاة حضر في السفر أو العكس فإنه يصليها كما وجبت:
إذا ذكر المسافر أنه لم يؤد صلاة الحضر، أو أنه قد صلاها على غير وجه مشروع
كصلاته لها بغير وضوء، فلو صلى الظهر في بلده ثم سافر وذكر أنه صلاها بغير
طهور، فإنه يصليها في سفره كما كانت أربعًا بإجماع أهل العلم لقوله ?: «من
نسى صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» [رواه مسلم].
أما عكس المسألة وهي: أن يذكر المسافر صلاة سفر عندما يصل إلى بلده ،ويتبين
له أنه صلاها بغير وضوء فإنه يلزمه قضاؤها، لكن هل يصليها تامة أو مقصورة؟
الراجح: صلاتها ركعتين إذا كانت رباعية للحديث السابق وللقاعدة الفقهية:
«القضاء يحكي الأداء» أي: أنه يقضيها على صورتها حين وجوبها السابق ( ).
حكم قصر الصلاة لمريد النزهة والاحتطاب والصيد ونحوها:
لا يجوز قصر الصلاة لغير مريد السفر لقوله تعالى: ?وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ?
[النساء: 101]؛ ولأنه ? كان لا يقصر إلا إذا خرج وارتحل.
والحكمة من مشروعية القصر التخفيف على المسافر للمشقة اللاحقة فيه ومعونته
على ما هو بصدده، أما من كان في بلده فلا يجوز له القصر بأي حال.
ومن الغريب أن البعض يتبادر إلى ذهنه أن الجمع والقصر للصلاة متلازمان وهذا
مفهوم خاطئ؛ لأن الجمع يجوز حال الحضر وحال السفر بخلاف القصر فإنه لا يصح
إلا في السفر.
ومع هذا فإن المرء قد يخرج من بلده لغير السفر كالنزهة البرية والصيد والاحتطاب والاحتشاش وغيرها فهل له القصر والجمع؟
اختلف في ذلك أهل العلم فمنهم من منع القصر لهؤلاء لأنهم ليسوا مسافرين،
ومنهم من أجازه وهو الصحيح وهو قول جمهور العلماء لأن أدلة القصر مطلقة غير
مقيدة.
قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله: إذا كانت المسافة بين البلد وبين محل
النزهة ثلاثة فراسخ أي تسعة أميال، وصاروا يقيمون إقامة يحملون من أجلها
الزاد والمزاد كاليومين والثلاثة فهم مسافرون يترخصون برخص السفر لما روى
مسلم عن أنس بن مالك ? قال: «كان النبي ? إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو
ثلاثة فراسخ صلى ركعتين»، ولكن الأولى عدم الجمع إلا إذا دعت الحاجة إليه.
وفي الدرر السنية (4/423): «الحشّاش ( ) والحطاب ونحوهما لهما القصر إلا
على قول من قال بتحديد المسافة ونية بلوغها وقد عرفت ما فيه، وأن الحجة مع
من خالفه، وهذا الذي يظهر لي».
مسائل:
المسألة الأولى: إذا اقترب المسافر من بلد إقامته راجعًا إليها جاز له
القصر ما لم يدخل بلده؛ لأنه ما زال مسافرًا لقول أنس ?: «خرجنا مع رسول
الله ? من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى
المدينة»( ).
وعن علي بن ربيعة قال: «خرجنا مع علي ? فقصرنا ونحن نرى البيوت ثم رجعنا
فقصرنا ونحن نرى البيوت فقلنا له، فقال علي: نقصر حتى ندخلها»( ).
المسألة الثانية: إذا رجع المسافر من السفر ودخل عليه الوقت وهو في السفر
ثم وصل بلده قبل خروج وقتها ،فإنه يصلي الرباعية أربعًا ولا يقصرها لانقطاع
سفره بعد دخوله بلده.
المسألة الثالثة: إذا علم المسافر أنه يقدم بلده قبل دخول وقت الصلاة
الثانية، فجمع بين الصلاتين صحَّتْ صلاته، لأن ذمته برئت بذلك ولأنه ما زال
مسافرًا وقيل: الأفضل عدم الجمع.
المسألة الرابعة: المسافر تلزمه الجماعة كالمقيم لكن إن وجد
جماعة يصلون قصرًا صلى معهم لأنه بهذا يجمع بين السنة في حقه وهو القصر
وبين الصلاة جماعة، أما إن لم يجد مسافرين يصلون قصرًا صلى مع المقيمين
ولزمه الإتمام ( ).
وعن شيخنا ابن باز رحمه الله: إذا كان المسافرون جماعة جاز لهم القصر
والجمع داخل البلد ولكن ترك الجمع أفضل؛ لأنهم مقيمون ولعدم الحاجة إليه،
أما من كان وحده فإن عليه الصلاة مع جماعة المسلمين ويتمها معهم من غير جمع
لعموم الأدلة، وهو قول شيخنا ابن عثيمين رحمه الله ( ).
هذا ما تيسر جمعه وبيانه من أحكام القصر؛ لتبصير أهل الحق وطالبي الحقيقة،
فالله أسأل أن يجعله عملاً مقبولاً، وأن ينفعنا بما نقوله إنه أهل الفضل
والإنعام، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.